الخميس، ١ يوليو ٢٠١٠

رمية زهر .. (قصة قصيرة).

.
-كده راحت يا حلو!
قالها بمزيج من الفرحة الطاغية والتشفي والشماتة لصديقة وهما جالسان على ذلك المقهى المتواضع المضاء بإضاءة صفراء واهنة تخبئ أكثر مما تظهر ، فرد عليه صديقه معترضاً:
-لأ لسه .. وحتى لو راحت .. ما أنا كسبتك قبل كده مليون مرة وياللا يا عم إكسب مرة من نفسك .
لم يستطع أن يعلق على كلمات صديقه فقد كان يعلم جيداً أنه على حق ..إنه لم يربح قط من قبل .. ليس في الطاولة فقط ولكن في كل شئ ..إنه من ذلك النوع الذي لا يربح أبداً .. ولم يسبق له أن حقق أى من أمانيه رغم تواضعها .. حقيقة لم يربح قط.
قضى سنوات طوال يجاوب على أسئلة المسابقات التليفزيونية على أمل أن يربح ولو لمرة واحدة بلا فائدة. تنقل من وظيفة إلى أخرى ومن عمل إلى آخر بدون أن يحقق أى نجاح يذكر.
وحتى الحب فشل فيه فشلاً ذريعاً .. أحبها كما لم يحب من قبل .. وحطمته كما لم يحطَم أحد من قبل... تزوج عله ينساها وأضاع الكثير من السنوات في زيجة فاشلة متهورة مع زوجة أشبه ما تكون بالعاهرات دمرت البقية الباقية من حياته وأنهت على سمعته حتى خرج من تلك الزيجة وهو كالمعتاد الخاسر الوحيد.
(بكره تتعدل) كلمة ملها إلى درجة الموت لأنه قد سمعها الآف المرات حتى أجبر نفسه أن تكف عن الشكوى وتستسلم منهزمة منكسرة ولم يعد له من متنفث سوى ذلك المقهى المتواضع والذي يأتيه كل يوم على أمل أن يفوز بأي شئ .. أى شئ .. حتى ولو كان هذا الشئ مجرد (عشرة طاولة).
- رحت فين.
قالها صديقه وهو يتأمل قطرات العرق والتي قد تجمعت على جبهته رغم برودة الجو في إشارة صارخة إلي توتره مما دفع صديقه إلى الإسترسال متهكماً:
- إيه يا عم العرق ده كله؟ إنت مش مصدق إنك هتكسب ولا إيه؟
ورغم لهجة صديقه الساخرة إلا أنه إستقبل الكلمات وهو يعلم جيداً أن الرجل لم يقل إلا الحقيقة ، إزداد توتره أكثر وأكثر وهو يستمع إلى صديقه وهو يقول:
- شوف .. إنت إحتمالات فوزك كبيرة أوى تقدر تقول 99.9 % زى الإنتخابات إياها .. بس عموماً أنا عندي أمل واحد بس .. 3 دش * ورا بعض.
وجد نفسه يهتف بعصبية شديدة : - وده طبعاً مستحيل.
صمت صديقه قليلاً وهو ينظر مباشرة في عينيه الزائغتين ثم تحدث قائلاً :
- رمية الزهر مفيهاش مستحيل .. رمية الزهر زى الدنيا اللى إحنا عايشين فيها .. فيها كل شئ ممكن .. رمية الزهر زي الحظ .. ساعات بتدى كل حاجه وساعات بتاخد كل حاجة .
وصمت قليلاً وسرح بناظريه بعيداً ثم إسترسل قائلا ً بصوت خفيض : - صدقني يا صاحبي حياتنا كلها عشرة طاولة وفي كل يوم بنرمي الزهر ونستنى الدش إللى هيخرجنا من همومنا ويحل كل مشاكلنا لكن للأسف زهر الحياة مفيش فيه دش ومع إننا عارفين ده كويس لكن بنحلم وبنعشم نفسنا ودايماً نقول (بكره تتعدل).
صمتا تماماً وسرح كل منهما مع أفكاره حتى قطع صديقه الصمت قائلاً : - ياللا نكمل . خليك فاكر أنا محتاج 3 دش.
صرخ في أعماقه قائلاً بلا صوت: - لن تربح هذه المرة .. أنا الفائز لا محالة.
شعر بوخز بسيط في صدره وهو يرى صديقه يلقي بحجري الزهر وتابعهما ببصره وهما يتخبطان على سطح الطاولة الخشبي .. توقف الأول عند الرقم 6 أما الآخر فإستمر يتخبط كثيراً ثم توقف ببطء أيضاً عند الرقم 6.
- الله أكبر.
قالها صديقه متحمساً بسعادة ثم استطرد قائلاً : دي أول حاجه لسه إللي جاى أكتر وزي ما بيقولوا أول الغيث قطرة.
إزداد الألم في صدره تدريجياً مع رمية الزهر الثانية ثم إنتفض جسده بقوة وهو يري زوجاً جديداً من الرقم 6 ظاهراً وجلياً أمام عينيه.. ومع صيحات صديقه المتحمسة والتى دفعت كل رواد المقهي إلى متابعة المباراة الدائرة بينهما بدأ يشعر بتسرب الحلم من بين أصابعه .. ليس الحلم بأن يفوز في مباراة الطاولة ولكنه حلم قضى عمره بالكامل يحاول أن يحققه بلا فائدة .. الحلم بأن يشعر بالنجاح .. الحلم بأن يكون سعيداً .. الحلم بأن يتخلص من الفشل الملازم له دائماً .. أحلام كثيرة تم أختصارها ومسخها وتحويلها إلى مجرد الحلم بالفوز في.. (عشرة طاولة).
أصبح الألم في صدره غير محتملاً ولكنه إحتمله .. أجل إحتمله كما إحتمل الكثير من الألم من قبل .. إحتمله وهو يجمع كل أحلامه في نظرة عينيه والتي اغرورقت بالدموع وهو يتابع صديقه وهو يرمي بالزهر للمرة الثالثة والأخيرة.



* الدش = 6+6

هناك ٨ تعليقات:

افروديت يقول...

برغم سطورك القليلة في سردك للقصه إلاأنهاتحمل معاني كبيرة...وبالفعل تشبيه صحيح رمية الزهرزي الدنياجعلتني أتذكرأنه ليس لي حظ مع ذلك النردأبدآ..بجدروعه وحزينه.

محمود المصرى يقول...

صديقى لايوجد شىْ اْسمه حظ بل يوجد قدر ومتنساش الدنيا مجرد ممر لاناْخذ منه شىْ الا العمل الصالح لازوجه ولا ولد ولا مال ولا جاه ولا اى شىْ عملك بس اْوعى تعمل زى عماد عبد الحليم عندما قال مش عارف غير للياْس طريق ولا شايف غير الحزن صديق وده بقى اْسمه القنوت من رحمة الله وربنا يبعدنا عنه وجزاك الله خير عن قصتك الجميله
متنساش تشوف موضوعى الجديد ومتنساش التعليق
اخوك
محمود المصرى

Dina يقول...

TQM

Amr Essam يقول...

أفروديت

أنتظرت بلهفة تعليقك على تلك القصة على وجه التحديد وخصوصاً بعد تجربة (الكراميل) والحق يقال أن كلماتك أثلجت قلبى وأسعدتني كثيراً كثيراً .. تشرفت بمرورك

Amr Essam يقول...

محمود المصرى

كلامك صحيح يا صديقى وانا فى تلك القصة لم اكن اتحدث عن الحظ فى حد ذاته وأعتقد انك إن أعدت قرائتها بتمعن ستستطيع قراءة ما بين السطور .. اننى يا صديقى اتحدث هنا عن احلام مشروعة للمواطن البسيط يعجز عن تحقيقها .. احلام بسيطة ولكنها صعبة المنال.. أحلام يتم تشويهها واختصارها لمجرد الرغبة فى الفوز بأى شئ حتى ولو كان بسيطاً تافهاً .. اسعدني مرورك

Amr Essam يقول...

Dina

TQM ?

وتمضى الايام يقول...

اولااريدان احييك على المدونة الرائعة التى جذبتنى للجلوس امام الجهازبالساعات بدون ان اشعربالملل بل شعرت انى اشاهدشخصاراقى الاحساس يسردكلماته الواحدة تلوالاخرى تجعلنى لااتمنى ان يتوقف وقصتك القصيرة رميةزهرماهى الاتعبيرجميل وسلس عن احلامى واحلام الكثيرون منا بالشعوربتحقيق شىءماحتى لوكان الفوزبرميةزهرصائبةمرةفىالعمر اعجبنى اسلوبك ووصفك لمشاعربطل القصةوالامه وانتظاره وترقبه بالنهاية اتمنى ان تكون نلت نصيبك من الفوزباى مماتريد بهذه الدنيا وتكون تلك القصة خيال مؤلف لا تقرير واقع تقبل مرورى وتحياتى

Amr Essam يقول...

وتمضي الأيام

لا أدري إن كنت بالفعل أستحق كلماتكِ الرائعة تلك أم أنه قلبك الرائع هو الذى يرى كل شئ جميل .. أسعدنى تعليقك كثيراً